الملامح الوثائقيَّة و اللِّيتورجيَّة لكنيسة الإسكندريَّة في الثَّلاثة “3” قرون الأولى
يناير 31, 2021
اللِّيتورجيَّة
جدول المحتويات
اللِّيتورجيَّة وكنيسة الاسكندرية /تأسيس كنيسة الإسكندريَّة بكرازة القدِّيس مرقس الرَّسول
تمهيد
اللِّيتورجيَّة
حياة النور المسيحي اللِّيتورجيَّة هي التَّقليد المستقر في كنيسة مصر، هو أنَّ القدِّيس مرقس البشير هـو مؤسِّس هذه الكنيسة، وهو أوَّل أُسقُف لها. ولقبُه اللِّيتورجي فيها هـو:
“ناظر الإله الإنجيلي، مـرقس الرَّسـول، الطَّـاهر ( أو القـدِّيس) والشَّهيد”. ولكن ماذا نعرف عن القدِّيس مرقس الرَّسول من الوجهـة
التَّاريخيَّة؟ وما هي المصادر المسيحيَّة المبكِّرة التي تشهد لهذا التَّقليد الـذي يربط بين القدِّيس مرقس الرَّسول، وكنيسة الإسكندريّة في بواكير حياهتا الأولى؟ وما هو التَّطوُّر الذي لحق هبذا التَّقليد، والذي يخبرنا عن بطاركة كنيسة الإسكندريَّة الذين صاروا خلفاء للقدِّيس مرقس الرَّسول؟
القدِّيس مرقس الرَّسول في كتاب العهد الجديد حينما تكلَّم كتاب العهد الجديد عن القدِّيس مرقس الرَّسـول، لم يخبرنا عن رباط مباشر بينـه، وبـين الكـرازة بالمسـيحيَّة في كنيسـةالإسكندريَّة، إذ لم ترد به أيَّة إشارة عن هذا التَّقليد، وفي الحقيقة، لم يخبرنا كتاب العهد الجديد عن أيَّة إرساليَّة للكرازة بالمسيحيَّة في مصر. لقد عُرف القدِّيس مرقس الرَّسول في سفر أعمال الرُّسُـل، باسم مرقس فقط أو باسم يوحنا فقط يوحنا الملقَّب مرقس
تأسيس كنيسة الإسكندريَّة بكرازة القدِّيس مرقس الرَّسول
وهذا الاسم الأخير، هو الذي ورد في كلِّ رسائل القدِّيس بولس الرَّسول، والقدِّيس بطرس الرَّسول. وطبقاً لسفر الأعمال، فإنَّ كنيسة أورشليم قد اجتمعت في بيت مريم أثناء حُكم هيرودس أغريباس (٤١-٤٤م). ولكن قبل أُم يوحنا مرقس ذلك، وفي هذا البيت عينه، وفي إحدى قاعاته، وهـي عِليَّـة صـهيون المشهورة، أكل السيِّد المسيح الفصح مع تلاميذه الأطهار. وفيها غسـل أرجلهم. وفيها أعطاهم عهد جسده ودمه الأقدسـين. وفيهـا اختفـى التَّلاميذ قُبيل القيامة. وفيها حل الرُّوح القُدُس على التَّلاميذ، وتكلَّمـوا بألسنة. ففي هذا البيت العظيم، نشأت أوَّل كنيسة مسيحيَّة في العالم وكان القدِّيس مرقس رفيقاً للرُّسُل في الإرساليَّات المسيحيَّة المبكِّرة، إذ اصطحبه الرَّسولان بولس وبرنابا معهما في رحلتهما من أورشليم إلى .
كما رافقهما القدِّيس مرقس أيضاً في إرساليَّتهما التي وصلُّوا أنطاكية فيها إلى قبرص وآسيا الصُّغرى، ولكنَّه تركهما في برجه Perga ليعود إلى أورشليم وحينما اختلف القدِّيس بـولس مـع الرَّسـول برنابـا في اصطحاب القدِّيس مرقس معهما في الرِّحلة التَّبشيريَّة الثَّانية، عاد الرَّسول برنابا إلى قبرص ، آخذاً معه القدِّيس مرقس . و القديس مرقس هو احد اقرباء برنابا. فاختار القدِّيس بـولس، الرَّسـول سـيلا بـدلاً مـن برنابا. ولم نسمع عن القدِّيس مرقس الرَّسول شيئاً بعد ذلك في سـفر الأعمال، حنى سمعنا عنه عدَّة مرَّات في رسائل القدِّيس بولس، وأيضاً في الرِّسالة الأولى للقدِّيس بطرس. وهو ما سيرد ذكره بعد قليل.
وهكذا ربط العهد الجديد بين القدِّيس مرقس الرَّسول وبين أورشليم وأنطاكية وقبرص وآسيا الصُّغرى وروما، ولكن لم ترد إشارة عن ذلـك الرِّباط الذي يربط بينه وبين مصر. وهو ما نودُّ أن نبحثه في هذا الفَصل. المصادر المبكِّرة التي تربط بين مـرقس وبطـرس الرَّسـولَين، وكنيسة مصر.
في السُّطور التَّالية سأتحدَّث عن أهم ثلاثة مصادر مسيحيَّة مبكِّـرة، ربطت بين مرقس وبطرس الرَّسولَين، وكنيسة مصر، وأيضاً عن تـدوين القدِّيس مرقس لإنجيله، وهي: بابياس أُسقُف هيروبوليس (١٢٠-١٣٠م)، والقدِّيس إيريناؤس (١٣٠-٢٠٠م)، والعلامة كليمنـدس الإسكندري (١٥٠-٢١٥م). ثمَّ تعقيب على معطياهتا، التي أغفلت علاقة القدِّيس بولس بكنيسة روما. : فيقول بابياس نقلاً عن قس يُدعى يوحنا .
“هذا ما يقوله القس (يوحنا) أيضاً: إنَّ مرقس إذ كان هو اللِّسـان النَّاطق لبطرس، كتب بدقَّة، ولو من غير ترتيب، كلَّ ما تذكَّره عمَّا قاله المسيح أو فعله، لأنه لا سمع للرَّب، ولا اتَّبعه، ولكنَّه فيما بعد – كمـا قلتُ – اتَّبع بطرس الذي جعل تعاليمه مطابقة لاحتياجات سامعيه، دون أن يقصد بأن يجعل أحاديث الرَّب مرتبطة ببعضها. ولذلك لم يرتكب أي خطأ، إذ كتب على هذا الوجه، ما تذكَّره. لأنه كان يحرص على أمـر واحد، أن لا يحذف شيئاً ممَّا سمعه، وأن لا يقرِّر أيَّ شيء خطأ. هذا مـا . دوَّنه بابياس عن مرقس” ويصف لنا القدِّيس إيريناؤس (١٣٠-٢٠٠م) أُسقُف ليون بفرنسـا، في كتابه “ضد الهرطقات”، كيف أنَّه بعد استشهاد القدِّيس بطرس في روما، فإنَّ القدِّيس مرقس، تلميذ بطرس، وشارح أقواله، سلَّم إلينا كتابةً، .
ما كرز وعلَّم به القدِّيس بطرس ويقول يوسابيوس عن العلاَّمة كليمندس: “… وبالاختصار لقد قدَّم في مؤلَّفه ‘وصف المناظر’، وصفاً مـوجزاً عن جميع الأسفار القانونيَّة، دون أن يحذف الأسفار المتنازَع عليهـا، أعـني رسالة يهوذا، والرَّسائل الجامعة الأُخرى، ورسالة برنابا، والسِّفر المسمَّى رؤيا بطرس … وفي نفس الكُتُب أيضاً، يُقدِّم كليمندس تقليد الآباء الأوَّلين عن ترتيب الأناجيل على هذا الوجه التَّالي: فيقول إنَّ الإنجيلَين المتضـمِّنين .
أمَّا إنجيل مرقس، فقد كانت مناسبة كتابتـه (١٥ (نسب المسيح كُتبا أولاً هكذا؛ لمَّا كرز بطرس بالكلمة جهاراً في روما، وأعلن الإنجيل بالرُّوح، طلب كثيرون من الحاضرين إلى مرقس أن يدوِّن أقواله، لأنه لازمه وقتاً طويلاً، وكان لا يزال يتذكَّرها. وبعد أن كَتَبَ الإنجيل، سلَّمه لمن طلبوه. ولمَّا علم بطرس هبذا، لم يمنعه من الكتابة، ولا شجَّعه عليها …” ويقول يوسابيوس أيضاً عن العلاَّمة كليمندس الإسكندري: “ويقولون إنَّ بطرس عندما علم بوحي من الرُّوح بما حدث، سرَّته .
وقد غيرة هؤلاء النَّاس، ونال السِّفر موافقته، لاستعماله في الكنائس أيَّد هذه الرِّواية كليمندس في الكتاب الثَّامن من مؤلَّفه: ‘وصف المناظر’، واتَّفق معه أيضاً أُسقُف هيروبوليس Hieropolis المسمَّى بابياس” تعقيب على ما قالته هذه المصادر المبكِّرة ، عن مرقس الرَّسول بأنه: “لا سمع للرَّب هل نقبل ما قاله بابياس ولا اتبعه”، ونتغاضى عن قول الكتاب المقدَّس بخصوص بيـت مـريم أُم مرقس، وهو البيت الذي شهد أحداثاً جساماً في حيـاة الـرَّب علـى ؟ وكيف يكون هذا، وقد كان القدِّيس مرقس أحد السَّـبعين رسولاً، بشهادة العلاَّمة أوريجانوس (١٨٥-٢٥٤م)، والقدِّيس إبيفـانيوس . (٢١) (٣١٥-٤٠٣م)؟ ناهيك عن التَّقليد اللِّيتورجي لكنيسة الإسكندريَّة ولاحظ هنا أنَّ كلام بابياس، لا علاقة له بروما. أي لم يربط بابياس بين بطرس الرَّسول وكرازته في روما.
وإنَّ ما يذكره بابيـاس بخصـوص إنجيل مرقس البشير، وكيف وصل إلينا، كونه من إملاء القدِّيس بطرس، هو أمرٌ قد صار محلَّ تنازع بين العُلماء والدَّارسين، باحثين، هل أنَّ مـا ذكره بابياس قد اعتمد على أحداث موثوق بها؟ومن جهة أُخرى، فإنَّ كلام بابياس (١٢٠-١٣٠م) الذي يربط بـين دور القدِّيس مرقس، كشارح لأقوال القدِّيس بطرس، قد ظهر أيضـاً في كتابات النِّصف الثَّاني من القرن الثَّاني الميلادي، عند القدِّيس إيرينـاؤس والعلامة كليمندس الإسكندري، ولكن بعد أن ربطت هذه الكتابات بين . وهنا ولأوَّل إنجيل القدِّيس مرقس، وكرازة القدِّيس بطرس في روما مرَّة يدور الحديث عن كرازة بطرس الرَّسول في روما، مع إغفـال تـام للإشارة إلى القدِّيس بولس الرَّسول، وهو ما سأشرحه بعد قليل.
وإنَّ ما قاله كليمندس الإسكندري عن إنجيـل مـرقس وعلاقتـه بالقدِّيس بطرس، به أيضاً بعض التَّضارُب مع ما قاله القدِّيس إيرينـاؤس. فالعلامة كليمندس يقول بأنَّ القدِّيس مرقس كتب إنجيله في حياة بطرس الرَّسول. والقدِّيس إيريناؤس يقول إنه كتبه بعـد استشـهاده. وكـلا المصدرين يعودان إلى نفس الزَّمن، أي النِّصف الثَّاني من القـرن الثَّـاني الميلادي! فأيُّ القولَين نقبل؟ إنَّ التَّضارب الذي وقع بين هذه الكتابات المبكِّرة وبعضها الـبعض من جهة، وبين بعضها وبين أحداث كتاب العهد الجديد، مـن جهـة أُخرى، قد وضعها محل شك. فمن الثَّابت كتابياً، أنَّ المسيحيَّة كانت قد عُرفت في رومـا، قبـل وصول أيٍّ من الرُّسُل إليها. فالقدِّيس بولس الرَّسول في رسـالته إلى أهل رومية .
وقبل أن يصل هو إليها، يُرسـل تحيَّاتـه إلى أشـخاص أهل رومية . وليس مـن المعقـول أن بعينهم، يتضَّح أنَّه على معرفة شخصيَّة هبم يغفل ذكر بطرس الرَّسول إن كان هذا الأخير في روما. ويؤكِّد كتاب العهد الجديد على أنَّ القدِّيس بولس قـد كـرز في روما . بل إنَّ الرَّب نفسه هو الذي دعاه لكي يشهد له هناك .ولم يكن ممكناً للرَّسول بولس أن يبشِّر بالمسيحيَّة في روما، لو كان الرَّسـول بطرس، أو غيره من الرُّسُل، قد سبقه إلى هناك، لأنَّ هذا هو المبدأ الـذي سار عليه في خدمته وظلَّ القدِّيس بولس يكـرز في رومـا قرابـة سنتين ، أي منذ وصوله إليها سنة ٦٠م، حتى سجنه الأوَّل فيها سـنة ٦٢م. وبعد إطلاق سراحه، ظلَّ يخدم فترة أُخرى بكلِّ حريَّة، حتى قُبض عليه مرَّة أُخرى سنة ٦٧م. وكان القدِّيس مرقس، في صـحبة القـدِّيس بولس . ومن روما كتب الرَّسول بولس عدَّة رسائل له، سـواء . إلى أشخاص أو إلى كنائس.
وبرغم أنَّه لا يوجد في الكتاب المقدَّس كلِّه، آية واحـدة صـريحة، . إلاَّ أنَّ هنـاك آيـة في رسالته الأولى تقول بأنَّ القدِّيس بطرس قد ذهب إلى روما ، ربما تشير إلى ذهابه إلى هناك. والآن علينا أن نلقي بعض الضَّوء على هذه الآية تحديـداً. فيقـول الرَّسول بطرس: «تُسلِّم عليكم التي في بابل Babylon ، المختارة معكـم، ومرقس ابني» (١بطرس ٥:١٣ ).فقول القدِّيس بطرس عن القدِّيس مرقس بأنَّه ابنه، قد استغلَّها الكُتَّاب الغربيَّون، استغلالاً أخرجها عن مضـموهنا الحقيقي . بالإضافة إلى الإشارة الخفيَّة لعبارة: «التي في بابل» والـتي كانت سبب تنازع كبير بين العُلماء .
وأنَّ الضَّمير المؤنث “التي” الـوارد في النَّص، لا يشير إلى شخص معيَّن بذاته، بل إلى الكنيسة، والتي هي اسم مؤنَّث في اللُّغة اليونانيَّة. وهكذا – وطبقاً لهذا المفهوم – فإنَّ هذه الآيـة يمكن قراءهتا كما يلي: “تسلِّم عليكم الكنيسة التي في بابل”. ولكن إزاء هذه الآية، تعترضنا استفسارات بخصوص المقصود ببابـل. فهل المقصود هنا مدينة بابل الواقعة فيما بين النَّهرَين؟ طبعاً لا، فهذا احتمال ضعيف للغاية، لأنه ليست هناك أية تقاليد مسيحيَّة مبكِّرة تربط بين زمـن القدِّيس بطرس، أو القدِّيس مرقس، ومدينة بابل الواقعة فيما بين النَّهرَين.
وأمَّا الاحتمال الثَّاني عن المقصود بمدينة بابل أي بـابيلون Babylon المذكورة في بطرس (٥:١٣) فهي تلك المدينة العسكريَّة الرُّومانيَّة القديمة الواقعة على نيل مصر، إلى الجنوب من مدينة القاهرة الحاليَّة، وهي المدينة التي أشار إليها كلٌّ من المؤرِّخ اليهودي يوسـيفوس فلافيـوس Josephus و الفيلسوف الرِّواقي استرابو Strabo (حوالي 63 ق.م- 23 ب.م ) . وإن كان هذا الاحتمال صحيحاً، فيكون ذلك هو أوَّل دليل يربط القدِّيس مرقس الرَّسول بمصر ولقد حاول الغربيُّون نفي هذا الاحتمال، وإجهاضه، بتقديم ثلاثـة اعتراضات.
الاعتراض الأوَّل، هو أنَّه برغم شـهرة القـدِّيس مـرقس، كمؤسِّس لكنيسة الإسكندريَّة، إلاَّ أنَّ الرِّوايات الـتي تحـدَّثت عنـه في الكنيسة المبكِّرة، لم تُشر لأيِّ رحلة له إلى حصن بابيلون بمصـر، أو أيِّ مكان آخر بمصر، غير مدينة الإسكندريَّة.
والاعتراض الثَّاني، هـو أنَّـه ليست لدينا أية دلائل من المصادر المسيحيَّة المبكِّرة، تفيد أنَّ هذا الموقـع العسكري، قد أصبح مركزاً مسيحياً، على الأقل لبضعة قرون قليلة بعـد . ولقد ذكر أحد العُلماء أنَّ موقعاً عسكرياً صغيراً مثل هـذا واقعاً على ضفَّة نهر النِّيل، لا يصلُح أن يكون هو المكان الأمثل، لكتابـة. مثل هذه الرِّسالة المرسَلة إلى جماعات مـن آسـيا الصُّـغرى.
الاعتراض الثَّالث والأخير، فهو أنَّ التَّحقيقات الأثريَّـة الحديثـة، قـد أوضحت أنَّ الحصن الموجود في موقع بابيلون بمصر القديمة، لم يكن قـد بُني، حتى العقد الأخير من القرن الثَّالث الميلادي، وذلك في أثناء حُكـم الإمبراطور الرُّوماني ديوكليتيانوس Diocletian (٢٨٤-٣٠٥م)، وبالتَّحديد (سنة ٢٩٠م ). ولكن هذا الاعتراض الثَّالث، هو اعتراض مغلـوط، لأنَّ المدينة العسكريَّة كانت موجودة بالفعل في زمان يوسيفوس (٣٧-١٠١م)،أمَّا الإمبراطور ديوكليتيانوس، فقد بنى حصناً في هذه المدينـة في أواخـرالقرن الثَّالث الميلادي.
ويبقى أمامنا فحص الاحتمال الثَّالث، إذ يرى كثيرٌ مـن العُلمـاء الغربيِّين أن “بابيلون” المذكورة في رسالة القدِّيس بطرس الرَّسول الأولى، هي اصطلاح مجازي يشير إلى مدينة روما. ويقولون إنه مع نهاية القـرن الأوَّل المسيحي، بدأت الكتابات الأبوكريفيَّة المبكِّرة، سواء لكُتَّاب يهود أو مسيحييِّن، بدأت تستخدم كلمة “بابيلون” كاسم رمـزي للمدينـة . الإمبراطوريَّة روما.
وفي الكنيسة المسيحيَّة المبكِّرة، استُخدم نفس هذا الرَّمز، بواسـطة كاتب سفر الرُّؤيا، حينما تكلَّم عن سقوط بابل (روما)، كنتيجة لقضاء الله. ولأنَّ التَّفسير اليهودي والمسيحي القديم، كان يعتبر “بـابيلون”مكاناً للنَّفي، أو للشَّتات، فإنَّ القدِّيس بطرس ربما يكون قد ذكر بابيلون في نهاية رسالته الأولى، لكي ينقل لقرائه مساندته لأولئك المتغرِّبين مـن الشَّتات. وهو ما أشار إليه في بداية رسالته الأولى حين يقول: «بطـرس رسول يسوع المسيح، إلى المتغرِّبين من شتات بنتس وغلاطية وكبدوكيَّة وآسيا وبيثينيَّة المختارين … لتكثُر لكم النِّعمة والسَّلام» (١بطرس ١:١ ) ويدعم يوسابيوس القيصري هذا الرأي، حينما يقول: “… ثمَّ أننا نرى بطرس يذكر مرقس في رسالته الأولى التي يُقال إنه كتبها في روما نفسـها،
كما يوضِّح هو عندما يدعو المدينة رمزياً بابل، في الكلمات التَّالية: «تُسـلِّم عليكم الكنيسة التي في ‘بابل’ المختارة معكم، ومرقس ابني»” وعلى أيِّ الحالات، فإنَّ الاستخدام المعاصر آنئذ لكلمـة “بـابيلون” كرمز لمدينة روما، وما ورد عنها في رسالة القدِّيس بطرس الرَّسـول الأولى، ربما يدعم الخلفيَّة الرُّومانيَّة للرِّسالة، ومن ثمَّ علاقة القدِّيس مرقس بالرَّسـول بالقديس بطرس الرَّسول طبقاً لهذه الخلفيَّة.
وحتى لو قبلنا هذا الاحتمال الثَّالث، فلا يمنع أن يكـون القـدِّيس مرقس قد كان أيضاً في صحبة القدِّيس بطرس في روما، في الشُّهور القليلة السَّابقة لاستشهاد هذا الأخير هناك، وهي الفترة التي تحدَّثت عنها الأقوال السَّابق الإشارة إليها، سواء عند بابياس، أو القـدِّيس إيرينـاؤس (١٣٠- ٢٠٠م)، أو عند العلاَّمة كليمندس الإسكندري (١٥٠-٢١٥م)، أو غيرهم. لأنَّ العلاَّمة أوريجانوس يرى أنَّ القدِّيس بطرس قد ذهـب إلى رومـا في . أواخر حياته (تقريباً حوالي سنة ٦٥م)، لمقاومة سـيمون السَّـاحر وواضح أنَّ ذهاب القدِّيس بطرس إلى روما لم يكن لتأسيس كنيسة هناك. أقدم المصادر والتَّقاليد عن القدِّيس مرقس الرَّسـول كمؤسِّـس لكنيسة الإسكندريَّة
أولاً: شهادة يوسابيوس القيصري عن تأسيس كنيسة الإسكندريَّة
لقد اعتُبر يوسابيوس القيصري (٢٦٠-٣٤٠م) دوماً، أنَّه أقدم شهادة موثَّقة، تعود إلى القرن الرَّابع الميلادي، تنسب للقدِّيس مرقس الرَّسـول تأسيس كنيسة الإسكندريَّة. فيقـول يوسـابيوس في كتابـه “تـاريخ الكنيسة”، والذي اكتمل تدوينه سنة ٣٢٥م: “ويقولون إنَّ مرقس هذا، كان أوَّل من أُرسل إلى مصر، وأنه نادى بالإنجيل الذي كتبه، وأسَّس الكنائس في الإسكندريَّة أولاً. وكان جمهور المؤمنين رجالاً ونساءً الذين اجتمعوا هناك في البداية، وعاشوا حياة الزُّهد والفلسفة المتطرِّفة، كثيرين جداً، حتى أنَّ فيلو (١٣ق.م-٥٠ب.م) وجده أمراً جديراً بالاهتمام أن يصف جهادهم واجتماعاهتم وتسلياهتم وكـل طرق معيشتهم” وهنا لنا عدَّة ملاحظات.
أولاً: يربط يوسابيوس بين تقليد تأسيس القدِّيس مـرقس لكنيسـة الإسكندريَّة، وبين التَّقاليد المبكِّرة عن كتابة القدِّيس مرقس لإنجيلـه في روما، محاولاً أن يضع أساساً زمنياً chronology basic لخدمـة القـدِّيس مرقس الكرازيَّة. ففي الفقرة السَّابقة لما سبق ذكره مباشرة من حـديث يوسابيوس عن إرساليَّة القدِّيس مرقس إلى الإسكندريَّة، يقول يوسابيوس: “عندما ذاعت الكلمة الإلهيَّة بينهم (أي بين مؤمني كنيسة رومـا)، انطفأت قوَّة سيمون وتلاشت، كما تلاشى الشَّخص نفسه. وأضاء جلال التَّقوى عقول سامعي بطرس، لدرجة أنهم لم يكتفوا بأن يسـمعوا مـرَّة واحدة فقط، ولم يقنعوا بتعاليم الإنجيل الإلهي غير المكتوبة، بل توسَّـلوا بكلِّ أنواع التَّوسُّلات إلى مرقس، أحد تابعي بطرس، والـذي لا يـزال إنجيله بين أيدينا،
لكي يترك لهم أثراً مكتوباً عن التَّعاليم الـتي سـبق أن وصلتهم شفهياً. ولم يكفُّوا حتى تغلَّبوا على الرَّجُل. وهكـذا سـنحت الفرصة لكتابة الإنجيل الذي يحمل اسم مرقس”. ويستطرد يوسابيوس قائلاً: “ويقولون إنَّ بطرس عنـدما علـم بوحي من الرُّوح بما حدث، سرَّته غيرة هؤلاء النَّاس، ونـال السِّـفر موافقته، لاستعماله في الكنائس. وقد أيَّد هذه الرِّوايـة كليمنـدس في الكتاب الثَّامن من مؤلَّفه: ‘وصف المناظر’، واتَّفق معه أيضاً أُسـقُف . “هيروبوليس Hieropolis المسمَّى بابياس”
وهكذا يربط يوسابيوس بين كتابة إنجيل مرقس في رومـا. وبـين كرازة القدِّيس مرقس في الإسكندريَّة بالإنجيل الذي كان قـد كتبـه في روما. وهنا يجمع يوسابيوس بين تقليدَين محليَّين، منفصلَين عن بعضـهما البعض، عن القدِّيس مرقس، ويضعهما في تسلسل، ضمن رواية مختصرة، . مرتَّبة ترتيباً زمنياً، بحسب سرده هو أمَّا من جهة زمن وصول القدِّيس مرقس إلى الإسـكندريَّة، فقـد اختلف المؤرِّخون فيما بينهم اختلافات واضحة. فيذكر يوسـابيوس أنَّ القدِّيس مرقس وصل إلى الإسكندريَّة في السَّنة الثَّالثة لحُكم الإمبراطـور .
أمَّـا كتـاب “تـاريخ كلوديوس Claudius أي سنة ٤٣ ميلاديَّة البطاركة”، المنسوب للأنبا ساويرس بن المقفَّع (حـوالي ٩١٥-١٠٠٠م)، فقد حدَّد زمن وصول القدِّيس مرقس إلى الإسكندريَّة في السَّنة الخامسـة . وهناك مصـادر عشرة من بعد صعود السيِّد المسيح، أي سنة ٤٨م كنسيَّة مختلفة، سواء ذات تاريخ مبكِّـر، أو تعـود إلى بدايـة القـرون المتوسِّطة، قد رجَّحت تاريخ وصول القدِّيس مرقس إلى الإسكندريَّة مـا . ويرى قداسة البابا شنوده الثَّالث بين سنة ٣٩م وسنة ٤٩م، أو ٥٠م أنَّ القدِّيس مرقس غالباً يكون قد وصل إلى الإسكندريَّة سـنة ٦٠م، أو سنة ٦١م، حيث يقول: “ولعلَّه هو الرأي الأقرب إلى الحقيقة، إذ يتَّفق مع غالبية آراء المؤرِّخين الأقباط الذين يجعلون مدَّة إقامة مار مرقس البشـير على الكرسي الإسكندري سبع سنوات وثمانية أشهر”.
ولكن هنـاك احتمال أنَّ القدِّيس مرقس بعد أن وفد إلى الإسكندريَّة في المـرَّة الأولى، وفي وقت مبكِّر، ربما لا يتعدَّى سنة ٥٠م، قضى هنا عدَّة سـنوات. وفي نهايتها رسم أنيانوس أُسقُفاً. ثم عاد إلى الخمس مُدُن الغربيَّة، ومنها سافر إلى روما، وقابل القدِّيس بطرس الرَّسول هناك، لأنَّ هذا الأخير لم يذهب إلى روما إلاَّ في حدود سنة ٦٥م. وبعد استشهاد الرَّسولَين بطرس وبولس سنة ٦٧م، عاد القدِّيس مرقس إلى الإسكندريَّة مرَّة أُخـرى، لـيرى أنَّ الكنيسة التي أسَّسها قد ازدهرت. حيث نال إكليل الشَّهادة سنة ٦٧م، أو ٦٨م. وهو استنتاج يعتمد على قراءة لما يرويه يوسـابيوس القيصـري، ولكن لا تدعمه براهين وثائقيَّة كافية.
ثانياً: لم يذكر يوسابيوس المصادر التي عرفنا منها التَّقليد المخـتص بتأسيس القدِّيس مرقس لكنيسة الإسكندريَّة، مكتفياً في ذلـك بقولـه: “ويقولون”، ربما اعتماداً على تقليد شفهي أصبح منتشراً ومسـتقراً في زمانه أو ربما عن مصادر كتابيَّة غير محدَّدة. . وذلك خلافاً لما ذكـره في مؤلَّفه “التَّاريخ الكنسي” عن أماكن أُخرى، حين أورد اقتباسات، من كُتَّاب سابقين له، استقى منهم معلوماته، تختص بهذه الأماكن.
ثالثاً: وأخيراً، لم يشرح لنا يوسابيوس، كيف كرز القدِّيس مـرقس بالمسيحيَّة في الإسكندريَّة. مكتفياً بإعطائنا معلومات قليلة جداً عن هـذا الأمر. فلم نعرف منه سوى أنَّ القدِّيس مرقس كرز بإنجيله الذي كان قد كتبه قبلاً في روما. بالإضافة إلى ذكره على سبيل الرِّواية، تأسيس القدِّيس مرقس للكنائس، ورسامة خلفاء له لخدمة الذين قبلوا الإيمان من الرِّجال والنِّساء. هؤلاء الذين وصف فيلو زهـدهم، وفلسـفتهم، وجهـادهم واجتماعاهتم، وتسلياهتم، وكلَّ طُرُق معيشتهم. إلاَّ أنَّ العبارة التي ذكرها يوسابيوس، والتي تقول: “وكان جمهور المؤمنين رجالاً ونسـاءً الـذين اجتمعوا هناك في البداية …”، ولاسيَّما كلمـة “في البدايـة”، قـد أربكت الفهم الدَّقيق للنَّص، فهل كان يوسابيوس يقصد هبؤلاء الجمهور من المؤمنين الذي وصفهم فيلو، هم تلك الجماعات اليهوديَّة التي عاشت في الإسكندريَّة، قبل وصول القدِّيس مرقس الرَّسول إليهـا، أم جماعـة المسيحيِّين الذين قبلوا الإيمان على يد القدِّيس مرقس الرَّسول.
فالتَّـاريخ المتأخِّر نوعاً ليوسابيوس القيصري في تسجيله لهـذا التَّقليـد، ونـدرة المعلومات التي أمدَّنا بها، واحتمال ورود أخطاء تاريخيَّة في تـدوين هـذاالتَّقليد، قد دفعت كثيراً من الباحثين الغربيِّين، مثل العـالم ليتزمـان .H Lietzmann إلى القول بأنَّ القدِّيس مرقس الرَّسول لم يكن هو أوَّل مـن . كرز بالمسيحيَّة في مصر ولكن المسيحيَّة التي نشـأت في الإسـكندريَّة في شـكل جماعات، قبل وصول القدِّيس مرقس الرَّسول إليها، لا نستطيع أن نسمِّيها كنيسة بالمعني الدَّقيق لمفهوم الكنيسة. بل كانت حـتى ذلـك الوَقـت، اجتهادات – حتى ولو كانت جماعيَّة – لم تأخـذ صـبغتها القانونيَّـة، . ككنيسة مبنيَّة على أساس الرُّسُل
ثانياً: شهادة العلاَّمة كليمندس الإسكندري
لقد ساد الاعتقاد بين بعض عُلماء الغرب – ومن بينهم العالم كـولين روبرتس Roberts. H Colin – بأنَّ العلاقة التي تربط بين القدِّيس مـرقس وكنيسة الإسكندريَّة لم تظهر إلاَّ في كتابات القرن الرَّابع الميلادي، وبدون وثائق تؤيِّدها ، بل هي محاولات متأخِّرة من الكنيسة لكي تؤسِّس تاريخها . وكانت المفاجأة، حين اكتشف العالم مورتن سميث في سنة ١٩٥٨م ، خطاباً وثائقيـاً للعلاَّمـة كليمنـدس الإسكندري (١٥٠-٢١٥م)، فنشره سنة ١٩٧٣م ومحتوى هذه الرِّسالة مثيرٌ للجدل. فالكاتـب يكتُـب رسـالته إلى شخص يُدعى ثيؤدور، يحذِّره فيها من تعاليم أتباع كاربوكرات المبتدع، الذين هم «نجوم تائهة» (يهوذا ١٣ )،الذين ادَّعوا أنهم وجدوا نسخة مـن إنجيل سرِّي كتبه مرقس الرَّسول، وخلطوا فيها ما هو حـق بأكاذيـب .
ثمَّ ابتدعوها. ويورد نصَّ بعض الفقرات من هذا الإنجيـل المنحـول يستطرد قائلاً: [فهؤلاء لا يجب أن نعطيهم فرصة للكلام، بـل حينمـا يعرضون تحريفاهتم، لا يجب أن يوافقهم أحدٌ على أنَّ هذا الإنجيل السِّري هو من مرقس. بل على العكس، ينبغي أن نستنكر ذلك ونجحـده]. وفي نفس هذه الرِّسالة، يقرِّر كليمندس الإسكندري ما يعرفه بخصوص زمان ومكان كتابة إنجيل مرقس الحقيقي، وأنَّ مرقس كتبه في الصُّورة الأخيرة التي بين أيدينا، لمَّا كان في الإسكندريَّة. وهذه الشَّهادة الأخـيرة تخـدم الغرض الذي نبحث عنه، وخصوصاً على ضوء شهادة أُخرى تأتينا أواخرالقرن الرَّابع الميلادي، من القدِّيس يوحنا ذهبي الفم (٣٤٧ -٤٠٧م)، حيث .
يقول بأنَّ الإنجيلي مرقس الرَّسول، كتب إنجيله في مصر وفي الحقيقة، في حين ظلَّت أصالة هذا الاكتشاف موضوعاً للنِّزاع، فإنَّ بعض العُلماء أكدوا حقيقة أنَّ العلاَّمة كليمندس الإسـكندري هـو . بالفعل كاتب هذه الرِّسالة وإذا ثبتت أصالة هذه الرِّسالة، فهي تُعتبر أقدم شاهد حـتى اليَـوم للتَّقليد الذي يذكر أنَّ القدِّيس مرقس كتب إنجيله في الإسـكندريَّة. إلاَّ أنَّ الرِّسالة تربط أيضاً بين إنجيل مرقس، وتعاليم القدِّيس بطرس في روما، وهو نفس ما ذكره يوسابيوس القيصري. فيقول كاتب الرِّسالة: [مرقس، أثناء إقامة بطرس في روما، كتب أعمال الـرَّب.
ومع أنَّه لم يذكرها كلَّها، ولا أشار إلى السِّريَّة منها، إلاَّ أنَّـه اختار تلك المفيدة بالأكثر لنمو إيمان أولئك الذين يتعلَّمـون. ولكن بعد موت بطرس كشهيد، جاء مرقس إلى الإسـكندريَّة حاملاً معه مذكِّراته، ومذكرات بطرس، والتي منها نقـل إلى كتابه السَّابق، الأمور المناسبة والتي من شأهنا أن تزيـد المعرفـة (gnosis) .وهكذا دوَّن إنجيلاً أكثر روحانيَّة ليستخدمه أولئك الذين صاروا كاملين. ومع ذلك فهو لم يتكلَّم عن أسرار لا يمكن التَّعبير عنها، ولم يدوِّن التَّعاليم الكهنوتيَّة للرَّب، ولكنَّه أضاف إلى الرِّوايات المكتوبة قبلاً، روايات أُخرى، بالإضافة إلى بعض الأقوال التي يعرف – كمُعلِّم لأسرار الدِّين – أنَّ شرحها يقود السَّامعين إلى أعماق سرِّ ذلك الإيمان المستور بسبعة (أختام). وهكذا بالاختصار، فقد أعاد صياغة مادة الإنجيل بدون حسد، أو إهمال، بحسب رأيي، ثمَّ مات، تاركاً ما كتبه للكنيسـة في الإسكندريَّة. ولا زال ما كتبه محفوظاً فيها بكلِّ عناية حتى اليَوم، .
ليقرأه فقط أولئك الذين دخلوا إلى الأسرار العظمى وتوحي كلمات المؤلِّف أنَّه كانـت هنـاك جماعـة مسـيحيَّة في الإسكندريَّة، حينما وصل القدِّيس مرقس إليها، وهي الجماعة التي يشـير إليها بالكاملين. كما يتضَّح من النَّص السَّابق ذكره، أنَّ القدِّيس مـرقس كتب نُسخة أوليَّة من إنجيله في روما، ليقرأه المبتدئون في الإيمان. أمَّا إنجيله الأكثر روحانيَّة، فقد كتبه في الإسكندريَّة. وأظنُّ أنَّ هذا الأمـر يحـلُّ الالتباس الذي كان قائماً بين من قال أنَّ القدِّيس مرقس كتب إنجيلـه في حياة القدِّيس بطرس، مثل العلاَّمة كليمنـدس الإسـكندري في مؤلَّفـه ” وصف المناظر”، ومن قال بأنه كتبه بعد استشهاد القدِّيس بطـرس . في روما، مثل القدِّيس إيريناؤس وفي حين تذكر رسالة كليمندس الإسكندري أنَّ القـدِّيس مـرقس كتب إنجيله في الإسكندريَّة، فإنَّ يوسابيوس لم يذكر سوى أنَّ القـدِّيس مرقس كرز بالإنجيل في الإسكندريَّة.
وفي حين تذكر الرِّسالة أنَّ القدِّيس ، مرقس حين جاء إلى الإسكندريَّة وجد بها جماعات مسيحيَّة . لم يشرح لنا يوسابيوس هذا الأمر بوضوح، إذ اعترى حديثه شيءٌ من اللَّبس إنَّ ملخَّص هذه الرِّسالة الهامة، يفيدنا بأنَّ القدِّيس مـرقس كَتَـب نُسخة أولى من إنجيله أثناء إقامة القدِّيس بطرس في روما. وبعد استشهاد القدِّيس بطرس، جاء القدِّيس مرقس إلى الإسكندريَّة. وفي مصر، استفاض في كتابة إنجيله، معتمداً على نفسه، وعلى مذكِّرات القدِّيس بطرس. وقد كتب إنجيله الرُّوحاني لتستخدمه كنيسة الإسكندريَّة.
ثالثاً: وثيقة “أعمال مرقس”
أقدم شهادة تشرح كرازة القـدِّيس مرقس بالمسيحيَّة في الإسكندريَّة إنَّ نُدرة المعلومات التَّاريخيَّة في المصادر المسيحيَّة المبكِّرة عن النَّشاط التَّبشيري للقدِّيس مرقس في الإسكندريَّة، أدىَّ بدوره إلى ظُهور التَّقاليـد الشَّفهيَّة عنه، لتملأ تلك الثَّغرة التَّاريخيَّة. ولقد حاولت تلك التَّقاليـد أن تجيب على سؤال: ماذا فعل القدِّيس مرقس؟ وأين ذهب حينما كـان في تلك المدينة؟ وفي الحقيقة فإنَّ تلك التَّقاليد الشَّفهيَّة كان قد تمَّ تدوينـها وتسجيلها للأجيال القادمة في الكنيسة. وكانت وثيقة “أعمال مرقس”، هي مثالٌ، لمصدر قام بتجميع مثل هذا التَّقليد الشَّفهي، وتدوينه، واصـفاً تفاصيل إرساليَّة القدِّيس مرقس إلى الإسكندريَّة واستشهاده فيها.
وقبل اكتشاف وثيقة “أعمال مرقس”، ظلَّ كتاب “تاريخ بطاركة الكنيسة القبطيَّة”، المنسوب للأنبا ساويرس بن المقفَّـع (حـوالي ٩١٥- ١٠٠٠م) وإلى زمن طويل، هو أوَّل مصدر يسرد لنا تفاصـيل النَّشـاط . التَّبشيري للقدِّيس مرقس في الإسكندريَّة أمَّا وثيقة “أعمال مرقس”، فهي وثيقة يرجِّح بعض العُلماء مثـل بريكولي Pericoli وريدولفيني Ridolfini أنها تعود إلى أواخر القرن الرَّابع . ولقد تمَّ تدوين هذه الوثيقة أصلاً باللُّغـة اليونانيَّة أو اللُّغة القبطيَّة أو أوائل الخامس القرن الميلادي. كما تُرجمت إلى عدَّة لغـات أُخـرى، هـي: اللاتينيَّة والعربيَّة والإثيوبيَّة. أمَّا النَّص اليوناني لها، فقد حُفظ في روايـتَين كاملتين “Two Greek recensions”.
وهذه الوثيقة تدمج تقليدَين معاً في تقليد واحد. التَّقليد الأوَّل يختص بتأسيس كنيسة الإسكندريَّة بواسطة القدِّيس مرقس الرَّسول، وتقابُله مع إسكافي يُدعى أنيانوس Anianus أو أنانيَّاس Ananias طبقاً للنَّص اليوناني الثَّاني، والذي أصبح خليفته في رئاسة كنيسة الإسكندريَّة. أمَّا التَّقليـد الثَّاني فيختص باستشهاد القدِّيس مرقس نفسه، مع شرح تشييد كنيسة في موقع استشهاده في ضواحي الإسكندريَّة. ويمكن تلخيص محتوى هذه الوثيقة في السُّطور التَّالية .
تنقسم وثيقة “أعمال مرقس” إلى قسمين:
القسـم الأوَّل يحـوي الفصول الخمسة الأولى، والتي تصف بالتَّفصيل كيف جاء القدِّيس مرقس إلى مصر، وأسَّس الكنيسة هناك. فطبقاً لرواية الوثيقة، حينما خرج الرُّسُل للكرازة، وقعت القُرعة على مرقس ليذهب إلى مصر، والمناطق المحيطة بها فجاء أولاً إلى سيرين Cyreneفي الخمس مدن الغربيَّة، وكرزبالإنجيل، وعمل كثيراً من المعجزات، من شفاء مرضى وإخراج شياطين. وعمَّد كثيرين من الذين قبلوا الإيمان . وبينما كان هناك، رأى رؤيا بضرورة الذِّهاب إلى فاروس Pharos في الإسكندريَّة .وفي اليَـوم التَّالي ودَّعه الإخوة مرسلين إيَّاه في سفينة مع مباركتهم. ووصل مـرقس إلى الإسكندريَّة،
وجاء إلى موضـع في المدينـة يُقـال لـه مينـديون وحالما دخل من بوابة المدينة تمزَّق حزام صندله، فبحث مرقس عن إسكافي في هذه المنطقة ليُصلحه له وبينمـا يعمل الإسكافي في الصَّندل، جُرحت يده اليُسرى فصرخ من الألم قائلاً: “يا االله الواحد .فجذبت هذه الاستغاثة انتباه مرقس “إذ رأى أنَّها علامة على أنه قد جاء إلى المكان الصَّحيح”. فأبرأ مرقس يد الإسكافي ولتقديم واجب الشُّكر، دعاه الإسـكافي إلى بيتـه، ليأكل عنده وهناك سأله الإسكافي عن سرِّ قوَّته في شـفاء يده. فبدأ مرقس تبشيره بيسوع المسيح، الذي يُدعى ابن االله وابن إبراهيم، مخبراً الرَّجُل بالنُّبوَّات التي تكلَّمت عنه (3:4-7)
وفي النِّهاية،آمـن الإسكافي بالمسيح، وتعمَّد هو وكلُّ أهل بيته، وكثيرون مـن جيرانـه وكان اسم الرَّجُل أنانيَّاس Ananias . وإذ أغضبت هـذه الأخبار بعض الوثنيِّين، فكَّر بعض رجال من المدينة في قتل مرقس وحين سمع مرقس أنَّ حياته أصبحت في خطر، قرَّر العودة إلى الخمـس مُدُن الغربيَّة Pentapolis . ولكن قبل رحيله رسم أنانيَّاس Ananias أُسقفاً، وسـابينوس Sabinus) وثلاثة قسـوس هـم ميلايـوس Milaius وكيردونوس Cerdo مع سبعة شمامسة، وأحد عشر شخصاً آخـرين للخدمة الكنسيَّة في كنيسة الإسكندريَّة
أمَّا القسم الثَّاني من وثيقة “أعمال مرقس”، والذي يحتل الخمسـة فصول الأُخرى من السَّادس إلى العاشر، فيصف تسلسل الأحداث الـتي أدَّت إلى استشهاد القدِّيس مرقس. فبعد قضاء سنتين في الخمس مدن الغربيَّة، كان القـدِّيس مـرقس مشغولاً فيهما برسـامة أسـاقفة وكهنـة لهـذه المنـاطق، عـاد إلى الإسكندريَّة ، فوجد أنَّ الجماعة (التي أسَّسها) قد ازدهرت ونمـت فيالنِّعمة والإيمان باالله،
وبنت لها كنيسة قُرب شاطئ البحر في موضع يدعى بوكولو.هذه الأحداث، مع أخبـار عودة القدِّيس مرقس إلى الإسكندريَّة، قد أثارت غضب الوثنيِّين في المدينة وفي هذه السَّنة، وقع احتفال المصريِّين بعبادة الإله سـرابيس (Serapis) في نفس يوم احتفال الكنيسة بعيد الفصح (القيامـة) وللحث على اتخاذ موقف، دخل جماعة مـن الـوثنيِّين إلى الكنيسـة، وحاصروا مرقس وهو في منتصف الخدمة، ووضعوا حبلاً حول رقبتـه، وجرُّوه في شوارع الإسكندريَّة، وكانوا يقولون: “جُـرُّوا الجـاموس في مراعي البقر حـتى تهرأ، لحمه، وتناثر على الأرض، واختلطت دماؤه بالحجارة وعندما حلَّ المساء، ألقى الغوغاء مرقس في السِّجن، بينما كان لم يـزل حيـاً، ويشكر االله وفي هذه اللَّيلة، بينما كان مرقس يُصـلِّي، حـدثت زلزلة عظيمة، وظهر له ملاك، قائلاً له: “يا مـرقس، خـادم االله، وأول قديسي مصر، هوذا اسمك قد كتب في سفر الحياة الأبديَّة، وعددت بـين الرُّسُل القدِّيسين. وذكراك لن تنسى إلى الأبد …وبعد الملاك، ظهر له المسيح نفسه، داعياً إياه: “المبشِّر باسمي”
وفي الصَّـباح تجمَّع الوثنيُّون وسحلوه مرَّة أُخرى في المدينة حتى فارقه الـرُّوح وحينما أشعل الغوغاء ناراً لحرق جسد مرقس في مكان يُدعى “الملائكـة” ، ووضعوا جسد مرقس فيه، أبطل المسيح مكيدهتم، فأرسل ريحاً شديدة، أرعبت الوثنيِّين فهربوا مذعورين .وفي النِّهاية، حمل بعض المؤمنين جسد مرقس، وعادوا به إلى الكنيسة، وأعدُّوه للصَّلاة عليـه كالعادة، ووضعوه في قبر حجري يقع شرق المدينة.
فمات مرقس الإنجيلي أوَّل شهداء كنيسة الإسكندريَّة في ٣٠ برمـودة (٢٥ أبريـل)، حينما كان غايوس طيباريوس قيصر إمبراطوراً، وهو العيـد التَّقليـدي . للقدِّيس مرقس في الكنيسة القبطيَّة .
تعقيب على محتوى وثيقة “أعمال مرقس”
يمثِّل النَّص الأصلي لوثيقة “أعمال مرقس”، أحد المصادر الرَّئيسـيَّة العديدة لكتاب “تاريخ بطاركة الكنيسة القبطيَّة” المنسوب لساويرس ابن (المقفَّع (حـوالي ٩١٥-١٠٠٠م). كما استفاد من هذه الوثيقة، مؤلِّـف السِّنكسار العربي للكنيسة القبطيَّة، والذي جرى تأليفه في القرن الثَّالـث .عشر الميلادي ويُعتبر حديث الرَّاهب اللاتيني بولينوس Paulinus والذي صار أُسقُفاً على نولا (Nola ٣٥٣-٤٣١م) من بواكير الشِّهادات الوثائقيَّة، عن التَّقليد المختص باستشهاد القدِّيس مرقس الرَّسول في الإسكندريَّة.
ففي واحـدة من أشعاره، ذكر صراع القدِّيس مرقس مع عبادة سـرابيس Serapis في الإسكندريَّة. وهو الصِّراع الذي أدىَّ إلى سجنه، ثمَّ استشهاده وبعيداً عن وثيقة “أعمال مرقس” نفسها، فإنَّ الشِّهادات المبكِّـرة التي تتحدَّث عن استشهاد القدِّيس مرقس، نجدها في التَّاريخ اللُّوزيـاكي History Lausiac لبالاديوس Palladius في أوائل القرن الخامس المـيلادي، حيث ترد قصَّة عن كاهن من غلاطية اسمه فيلوروموس Philoromus زار الإسكندريَّة وصلَّى في الكنيسة التي بُنيت على قـبر القـدِّيس مـرقس . Martyrion of Mark وفي وثيقة “استشهاد القدِّيس بطرس رئيس أساقفة الإسكندريَّة (+ ٢٥ نوفمبر ٣١١م)، نقرأ أنَّ حائط السِّجن الذي سُجن فيـه القدِّيس،
قد تمَّ ثقبه، ثم أخذه الجنود إلى بوكاليا Boukolou حيث صـلَّى عند قبر القدِّيس مرقس الإنجيلي أوَّل شهداء الإسكندريَّة. ثمَّ قُطعت رأسه – أي رأس القدِّيس بطرس الكاهن والشَّهيد – بحد السَّيف. ومن ثمَّ، يفترض بعض العُلماء أنَّ وثيقة “استشهاد القدِّيس بطـرس” رئيس أساقفة الإسكندريَّة، تُعتَبر شهادة وثائقيَّة من القرن الرَّابـع المـيلادي لوثيقة “أعمال مرقس”. بينما يرى البعض الآخر أنَّ قصَّة صلاة بطرس خاتم الشُّهداء ورئيس الكهنة عند قبر القدِّيس مرقس – إلى جانب سمـات أُخرى في النَّص – هي إضافات متأخِّرة، دخلت على الأصل الذي دُوِّن في أوائل القرن الرَّابع الميلادي عن استشهاد القدِّيس بطرس أُسقُف الإسكندريَّة.